حينما يكتشف الإنسان أنه مصاب بمرض مزمن مثل مرضى السكر أو ارتفاع ضغط الدم، فإنه غالبًا ما يتوقف عند لحظة التشخيص، فيشعر بأنه أدّى ما عليه من مسؤولية تجاه صحته، ويظن أن بدء العلاج هو كل ما يلزمه ليواصل حياته بشكل طبيعي. لكن الحقيقة الطبية تخبرنا بأن لحظة التشخيص ليست نهاية الطريق، بل بدايته، وأن ما يليها لا يقل أهمية، بل قد يكون أكثر حسمًا في الوقاية من مضاعفات قد تؤثر على جودة الحياة بشكل بالغ.
التشخيص ليس نهاية الطريق بل بدايته
التشخيص هو المرحلة التي تُحدد فيها الإصابة بمرض معين بناءً على فحوصات وتحاليل سريرية، ويُعدّ الخطوة الأولى نحو إدارة المرض. فعندما يُشخّص الطبيب مريضًا بارتفاع مستوى السكر في الدم، أو يلاحظ ارتفاعًا متكررًا في ضغط الدم، فإنه يضع بذلك الأساس الذي تُبنى عليه خطة العلاج. لكن هذه الخطة ليست ثابتة، ولا تُطبق مرة واحدة فحسب، بل تحتاج إلى تقييم دوري وتعديل مستمر بناءً على استجابة الجسم، وتغيّر الظروف الصحية للمريض. وهنا تتجلى أهمية ما نُطلق عليه “المتابعة الطبية المنتظمة”.
ما المقصود بالمتابعة المنتظمة؟
المتابعة لا تعني مجرد إعادة زيارة الطبيب من وقت لآخر، بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى مراقبة تطور الحالة الصحية، واكتشاف أي تغيّر قد يُنذر بحدوث مضاعفات خطيرة، والتدخل المبكر قبل أن تتفاقم المشكلات. فداء السكري، على سبيل المثال، قد يبدو مستقرًا عند كثير من المرضى، لكن غياب المتابعة المنتظمة قد يخفي وراءه اضطرابات في وظائف الكلى، أو ارتفاعًا في الدهون، أو بداية اعتلال في الشبكية، أو حتى تراجعًا تدريجيًا في الإحساس بالأطراف، وهي كلها مؤشرات لا يشعر بها المريض إلا في مراحل متأخرة، لكنها تُكتشف بسهولة عند إجراء التحاليل والفحوص الدورية.
ضغط الدم المرتفع: قاتل صامت يحتاج للمراقبة الدقيقة
الأمر ذاته ينطبق على مرضى ارتفاع ضغط الدم. فارتفاع الضغط لا يظهر بأعراض واضحة في معظم الأحيان، لكنه يعمل بصمت على إضعاف القلب، والإضرار بالأوعية الدموية، والتأثير على وظائف الكلى والدماغ. وكم من حالات كانت تبدو مستقرة، ثم تفاجأت بمضاعفات قلبية أو دماغية حادة نتيجة غياب المتابعة وعدم تعديل خطة العلاج في الوقت المناسب.
خطة المتابعة… فردية وليست موحدة
وهنا يجب التأكيد على أن خطة المتابعة تختلف من مريض لآخر، فهي تعتمد على عوامل عدة مثل عمر المريض، مدة الإصابة، وجود أمراض مصاحبة، ونمط الحياة. ولهذا فإن الرعاية الشخصية الدقيقة، والمتابعة المستمرة من قبل فريق طبي متخصص، تُعد من الركائز الأساسية للسيطرة على هذه الأمراض المزمنة.
أبعاد المتابعة: أكثر من مجرد قياسات
ومن المهم أن ندرك أن المتابعة ليست مقتصرة على قياس نسبة السكر أو قراءة جهاز الضغط، بل تشمل أيضًا تقييم المؤشرات الحيوية الأخرى التي قد تتأثر بالمرض أو بالعلاج. في حالة داء السكري، ينبغي متابعة السكر التراكمي بشكل دوري، وفحص الكلى والدهون ووظائف الكبد، وإجراء فحص دوري لقاع العين للكشف عن أي اعتلال مبكر في الشبكية. كذلك، فإن فحص القدمين بانتظام، واستخدام فحص “الدوبلر” عند الحاجة، يساعدان على كشف مشاكل الدورة الدموية الدقيقة التي قد تُفضي إلى تقرحات أو مضاعفات بالغة إذا لم تُعالج في الوقت المناسب.
مراقبة مرضى الضغط: منظور شامل
أما بالنسبة لمرضى الضغط المرتفع، فإن المتابعة تشمل مراقبة استجابة الجسم للعلاج، وفحص القلب والأوعية، وتحليل وظائف الكلى، إلى جانب متابعة الدهون والكوليسترول، التي تلعب دورًا كبيرًا في مضاعفات الضغط على المدى البعيد.
الدور التوعوي والنفسي للمتابعة المنتظمة
ولا تقتصر المتابعة الناجحة على الجانب العلاجي فقط، بل تتعداه إلى الجانب التثقيفي والنفسي. فالمريض الذي يتابع حالته بانتظام يكون أكثر وعيًا بطبيعة مرضه، وأكثر التزامًا بخطة العلاج، ويشعر بقدر أكبر من السيطرة على صحته. كما أن المتابعة المنتظمة تُمكّن الطبيب من تعديل الدواء إذا دعت الحاجة، أو إدخال تغييرات على النظام الغذائي أو نمط الحياة، وفقًا للتطورات الجديدة في الحالة الصحية.
المتابعة وقاية لا غنى عنها
إن الإيمان بأهمية المتابعة الطبية المنتظمة ليس ترفًا، بل ضرورة لا غنى عنها في التعامل مع الأمراض المزمنة، وخاصة داء السكري وارتفاع ضغط الدم. فالهدف من التشخيص ليس فقط معرفة وجود المرض، بل تمكين المريض من التعايش معه بأقل قدر من المضاعفات وأعلى قدر من السلامة الصحية. وهذا الهدف لا يتحقق إلا بالاستمرار في المتابعة، وتجنّب الاكتفاء بالمعرفة اللحظية بوجود المرض دون تقييم مستمر لحالته وتقدّمه.
في الختام، يمكن القول إن التشخيص هو جرس الإنذار الأول، أما المتابعة فهي خطة الحماية المستمرة. ولا تكتمل حماية الإنسان من مضاعفات الأمراض المزمنة إلا بالربط الوثيق بين التشخيص والمتابعة، وبين العلاج والتقييم المستمر. إن من يعي هذا الفارق يدرك أن متابعة السكر والضغط ليست أمرًا ثانويًا، بل هي حجر الأساس في الحفاظ على صحة القلب، والكلى، والعينين، والأطراف، بل والحياة نفسها.
نبذة عن الدكتور أشرف الشربيني:
الدكتور أشرف الشربيني هو أستاذ الباطنة العامة بالمركز القومي للبحوث، وشغل سابقًا منصب رئيس قسم الباطنة العامة بالمركز، ويشغل حاليًا مناصب متعددة كـ:
أستاذ واستشاري في مجموعة مستشفيات كليوباترا
رئيس قسم الباطنة بمستشفى معهد ناصر
المشرف العام على مركز الشربيني للخدمات الطبية
بفضل خبرته الطويلة ومشاركته العلمية، استطاع د. الشربيني أن يقدم نموذجًا متكاملًا للطب التخصصي الدقيق، يجمع بين التشخيص، المتابعة، والتعاون مع أساتذة التخصصات المختلفة.